مقالات

كشـري!

بقلم: حرية سليمان                                                                                                

كنت أصطحب أمي لطبيبها أو تصحبني هي لشراء احتياجاتي في نطاق شارعي “بنك مصر ” بمدينة “المنصورة”، والمعروف بشارع الأطباء، فلم تكن تخلو عمارة فيه من عشر لافتات وربما أكثر لأطباء في جميع التخصصات، وشارع “السكة الجديدة ” وكان شارعا تجاريا زخما مزدحما.

أحب تلك الأماكن وإن كنت أتذمر منها.. أحب الزحام لأتوه فيه وأكرهه لأنه ينهكني!                                      

كنت وأمي نقطع الشارع مشيا لآخره وندلف يمينا  لتقابلنا الواجهة الزجاجية العريضة لمطعم “العمدة” للكشري لنحصل على طبقين ساخنين رائعين.                                                       

يا الله.. ما أجمل الرائحة !.. مزيج من العدس الأسود والأرز المصري والمكرونة المشكلة والحمص إضافة إلى الشطة الحارة والبصل المقلي المقرمش المعروف بـ “الورد” والصلصة الحارة المسبكة والمطهوة على مهل وتابل الكمون المضاف إليه مهروس الثوم والخل وعصير  الليمون.

قيمته بالنسبة لي لم تكن تتمثل في غنى مكوناته وانسجام المذاقات بقدر الطقوس اللازمة قبل أن تحصل على وجبة منه..

بداية لابد أن تتهيأ نفسيا للفكرة  فتتشبع حواسك بها.. لتقطع الشارع حتى نهايته متجاوزا زحامه وناسه ثم تنحرف يمينا متأهبا للمغامرة..  عليك صعود السلم الضيق للمطعم بالطابق الثاني وكان يواجه المطبخ حيث  يعد الطعام على تنوعه.. فتسمع أحاديث الطهاة وحركات التقليب المستمرة في الأواني ولتشم كثير  من الروائح المختلطة.. كان لصوت النار تحت القدور ما يشبه هدير الماكينات العملاقة.. ويمكن الأقرب للصوت فعليا خلايا النحل في أوج نشاط سكانها.                                              

كان “العمدة” الأشهر وقتها في تقديم الكشري بجودة معقولة وكم معقول وسعر زهيد.. وكان مطعما للمأكولات الشرقية لكن سر تميزه الحقيقي الكشري المصري.. سعره وقتها لم يتعد جنيهين ونصف ثم تطور الأمر بعدها بسنوات لسبعة جنيهات ونصف وكان معقولا حينها أيضا..

وبعد أن كنت وأمي نرتاده وحدنا انضمت لنا طفلتاي الصغيرتان وأصبح الأمر عادة لطيفة كررناها كثيرا لكسر الروتين المنهك ورتابة الأسبوع.                 

كانت الحياة كلها معقولة صراحة بكل ما فيها حتى مشاعر غضبنا وحزننا كانت محتملة.. حتى أن أي تغيير مهما بلغت بساطته يصنع فارقا كبيرا ومن دون مجهود يذكر.

أصبح طبق الكشري الآن يقارب الأربعين جنيها بمكونات مغلفة نظيفة لم تلمسها يد غير أنها فقدت حميميتها ورائحتها المميزة وربما فقدنا نحن كل آليات الانبساط ففقدت حواسنا وظيفتها..

أصبحت الحياة مسخا غريبا مشوها بعين وساق واحدة! لم تعد كل أطباق الكشري بنظافتها وبرانداتها أو حتى البيتزا بوفرة مكوناتها وغنى صوصاتها ولا المطاعم الكبيرة بتعدد ما تقدمه من أطباق وحلوى مبهرة وعصائر ومشروبات غنية بالألوان، والنكهات تكاد تنقلك لـ”تاهيتي” بقادرة على تحريك رواكد الروح وتنفي مواطن الألم.          

بالمناسبة! حصلت اليوم على ثلاثة أطباق من الكشري المغلف الرائع مع الكثير من الإضافات من أحد المطاعم المعروفة وثلاثة من المشروبات صغيرة الحجم بتكلفة تجاوزت المئتين وخمسين جنيها.. قطعا تضاف لها خدمة التوصيل السريعة المميزة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى