التكنولوجيا والعائد على الاستثمار في قطاع الاتصالات: إلى أين يتجه القطاع؟
بقلم: فران هيران- نائب رئيس الاتصالات العالمية لدى شركة «ريد هات»

نستعرض في هذا المقال الوضع الراهن للتكنولوجيا في قطاع الاتصالات، مع التركيز على شبكات الجيل الخامس وتطورها. ونناقش أيضاً النجاحات والإخفاقات السابقة، مستخلصاً الدروس التي يمكن أن ترشد مزوّدي الخدمات حول سُبُل تجهيز بنيتهم التحتية لمستقبل أكثر ربحية وكفاءة.
الجيل الخامس اليوم
تُشكّل تقنيات الجيل الخامس (5G) نقلةً نوعية في شبكات الهواتف المحمولة وتعزيز تجربة المستخدم، إذ يواصل مزوّدو الخدمات تطوير شبكاتهم لتقديم مستويات الاتصال والسرعة التي تواكب توقعات المستهلكين والشركات. ورغم أن تبني هذه التكنولوجيا كان الأسرع بين أجيال شبكات الهواتف المحمولة، إلا أن العائد على الاستثمار لم يحقق النتائج المرجوّة بعد، نظراً لصعوبة تحقيق مكاسب مباشرة من المستهلكين، فضلاً عن الضغوط التنافسية المستمرة التي يواجهها مزوّدو الخدمات، بما في ذلك الضغوط من مزوّدي خدمات البث المباشر عبر الإنترنت. ورغم أهمية زيادة السرعة واتساع نطاق الشبكة لتلبية توقعات المستهلكين، تكمن الفرص الكبرى للنمو التجاري بشكلٍ أساسي في تطوير خدمات الجيل الخامس للمؤسسات وتحقيق عوائد مالية منها، عبر تحويل هذه الشبكات فائقة السرعة إلى منصات مؤسسية عالية القيمة.
جني العوائد من شبكات المستقبل
تتجه البنى التحتية للشبكات نحو مزيدٍ من التوزيع والتعقيد، حيث تنتقل من مراكز بيانات مركزية كبيرة إلى مرافق أصغر للحوسبة الطرفية. ويتزايد تطوير الشبكات الراديوية، ما يوفر عدداً أكبر من مواقع شبكات الحافة البعيدة ويُتيح إمكانية تقديم الخدمات فائقة السرعة. ومع تطور تقنيات الجيل الخامس إلى الجيل الخامس المتقدم (5G Advanced) ثم إلى الجيل السادس (6G)، ستصبح الشبكات قادرة على دعم أنواع جديدة من الأجهزة، مثل الأجهزة القابلة للارتداء، وتقنيات الواقع المعزز، والطائرات بدون طيار، مع توفر خيارات تكنولوجية أكثر كفاءة من حيث التكلفة، ما يفتح الباب أمام فرص تجارية جديدة لمزوّدي الخدمات والشركات على حد سواء. ويتيح ذلك لمزوّدي الخدمات إعادة توزيع أحمال الشبكة باستخدام تصميم موزّع قائم على الحوسبة الطرفية، وذلك بما يتوافق مع التكلفة والأداء والمتطلبات التجارية. وتُمثّل زيادة قدرات شبكات الحافة وتوافر الاتصال منخفض زمن الاستجابة فرصاً جديدة، كما تشير في الوقت ذاته إلى تغيير في الطريقة التي تُبنى وتُنشَر بها الشبكات والتطبيقات الداعمة لها.
وبناءً على الدروس المستفادة من شبكات الجيل الخامس، يجب إعطاء الأولوية لوضع أسس سليمة، واعتماد نهجٍ أكثر شمولاً في بناء البنية التحتية لتلبية متطلبات المستقبل.
الركيزة الأولى: السحابة المشتركة
تتطلّب الاستفادة من أحدث الابتكارات والتغيرات في أنماط الطلب ارتكاز أسس البنية التحتية على أقصى درجات المرونة. وغالباً ما يعني ذلك الانتقال إلى منصة سحابية أصلية مشتركة، كما هو الحال لدى شركات مثل تي-موبايل وأورانج وسفاريكوم وتركسل. ويقصد بذلك توحيد البنية التحتية ومعاييرها عبر مختلف الأحمال – سواء المتعلقة بتكنولوجيا المعلومات أو الشبكة، بما في ذلك التطبيقات التقليدية والافتراضية والسحابية الأصلية. وتعمل المنصة المشتركة بطبيعتها على سد الفجوات التشغيلية وتعزيز الاتساق في الإدارة.
ومن المهم التأكيد أن السحابة المشتركة لا تعني الاقتصار على سحابة واحدة، بل تمثل نهجاً معيارياً متسقاً لتصميم البنية التحتية واستخدامها، بما يوفّر بيئات تشغيلية محسّنة تستجيب لمتطلبات أنواع الأحمال المختلفة. ويتيح هذا التماثل التشغيلي والمرونة الوظيفية السيطرة بشكل أفضل على التكلفة والمخاطر والتعقيد. ويكتسب هذا النهج أهمية خاصة في الوقت الراهن، حيث أصبحت السيادة الرقمية أولوية قصوى، كما يُمكّن مزوّدي الخدمات من دعم الشبكات الهجينة واسعة النطاق ومتعددة الأحمال والموزعة بسهولة أكبر، مما يتيح لهم الاستفادة من الفرص التي توفرها شبكات الحوسبة الطرفية المؤسسية.
الركيزة الثانية: المصادر المفتوحة والمنصات المفتوحة
يعتمد هذا المبدأ على ضرورة قيام مزودي الخدمات بتبني معايير الانفتاح في تصميم البنى الشبكية، انطلاقاً من الاعتماد على البرمجيات مفتوحة المصدر ووصولاً إلى تطوير واجهات برمجة تطبيقات (APIs) مفتوحة على جميع المستويات. وتلعب المصادر المفتوحة دوراً محورياً في دفع عجلة الابتكار عبر قطاعات متنوعة، بما فيها الذكاء الاصطناعي، وذلك نتيجة للتطوير المتسارع الذي تتيحه مساهمات مجتمعات تخصصية عالمية تعمل بشفافية وتتبنى مبدأ التراكم المعرفي. وسيكون هذا النهج عاملاً محورياً في تطوير تقنيات الجيل السادس (6G)، حيث ستتولد الخدمات المتقدمة من خلال تعاون قطاعات صناعية ومؤسسية متعددة، تتجاوز نطاق قطاع الاتصالات التقليدي. ويتطلب هذا النموذج بناء منظومة تعاونية موسعة تشمل جميع الأطراف الفاعلة. واليوم، بدأت تتجلى ملامح التوجُّه نحو تعميق التعاون وتبني الانفتاح، حيث يبدي مزودو الخدمات مشاركة غير مسبوقة في المشاريع مفتوحة المصدر، ويعملون بشكل تكاملي ضمن مجتمعات التطوير لتحقيق رؤى مشتركة.
الركيزة الثالثة: تفعيل الأتمتة والذكاء الاصطناعي
تشكل إدارة التكاليف وتحسينها أولويةً قصوى ضمن القطاع؛ وفي ضوء ذلك، يتعيّن علينا رفع مستوى الكفاءة من خلال تنفيذ الأتمتة الشاملة داخل شبكات الجيل الخامس الحالية للارتقاء بالفعالية التشغيلية، وتوظيف الذكاء الاصطناعي لتبسيط العمليات التشغيلية والأعمال، ودفع عجلة الابتكار والتحوُّل نحو نماذج تشغيل أكثر ذكاءً ومرونة.
ويقود الذكاء الاصطناعي تحولاً جذرياً في نماذج بناء وتشغيل الشبكات، من خلال توفير ذكاء معمق ينساب عبر جميع طبقات الشبكة – من أنظمة الوصول الراديوي حتى النواة المركزية وتكنولوجيا المعلومات. ويتيح دمج هذه التقنيات في منصات إدارة الشبكات إمكانية أتمتة العمليات الأكثر تعقيداً، والتحسين الديناميكي لتوزيع الموارد في الزمن الحقيقي عبر منصات قابلة للبرمجة، إضافة إلى الكشف الاستباقي عن الأعطال ومعالجتها ذاتياً قبل تفاقم آثارها. ويعزز دمج رؤى الذكاء الاصطناعي في أنظمة التشغيل ذات الحلقة المغلقة فاعلية القرارات التشغيلية، مما يحقق نقلةً نوعية في موثوقية الشبكة وأدائها، إلى جانب خفض تكاليف التشغيل وتسريع وتيرة إطلاق الخدمات الجديدة بمرونة وكفاءة غير مسبوقة.
وأدت التعقيدات المتزايدة في بنى شبكات الاتصالات وعملياتها إلى تضخم هائل في حجم البيانات المبعثرة عبر قواعد بيانات معزولة وهياكل تنظيمية متعددة. ونظراً لأن التطبيقات تُنشر عادةً حيث توجد البيانات، فإن هذا الواقع يفرض ضرورة تصميم منصة ذكاء اصطناعي تتسم بالمرونة والاتساق عبر البيئات الهجينة المعقدة. ومواكبةً لمسار التحول الرقمي في القطاعات الأخرى، يتجه مزودو خدمات الاتصالات نحو نشر مجموعة متنوعة من النماذج اللغوية – الصغيرة منها والكبيرة – حيث تُدرَّب النماذج الصغيرة على مجموعات بيانات متخصصة لتلبية متطلبات حالات استخدام محددة. ويمكِّن هذا النهج الاستراتيجي مزودي الخدمات من تحقيق مرونة أعلى في انتقاء التقنيات وتدريبها بما يتناسب مع احتياجات أعمالهم. وبالتالي، يجب تصميم منصة ذكاء اصطناعي محايدة تجاه النماذج.
اغتنام الفرص
يفضي تطوير شبكات تُصمَّم وتُبنَى لخدمة كل من الأفراد والآلات إلى تحقيق إيرادات جديدة على نطاقٍ غير مسبوق. وستدعم هذه الشبكات المستهلكين والشركات ومنظومة تطوير غنية ومفتوحة، مع ضمان تجربة انضمام سلسة، ومزيج أمثل من الخيارات المتوازنة من حيث الأداء والسعر، بالإضافة إلى عمليات مؤتمتة بالكامل.
ويمثل اتباع نهجٍ استباقي لتحديد فرص التحديث الشامل واستثمار إمكانات الشبكات عاملاً بالغ الأهمية على هذا الصعيد، مع التركيز على الانتقال نحو بنيةٍ تحتية سحابية موحدة وأصلية. ويتطلب ذلك تبني تحول جذري لكسر الحواجز التشغيلية التقليدية، واعتماد نماذج تصميم وإدارة موحدة، وهياكل مرنة ولا مركزية. هذا، ولم يعد تعزيز مبادئ الانفتاح في هياكل الاتصالات مجرد خيار، بل أصبح ضرورةً استراتيجية حتمية لضمان القدرة على المنافسة والابتكار في المشهد الرقمي بتطوراته المتسارعة.
وتمهّد هذه التطورات الاستراتيجية الطريق أمام تعزيز الدور الريادي لمزودي الخدمات في قيادة الموجة المقبلة من التحول الرقمي للشركات على مستوى العالم.